( فوجئت وأنا أعيد النظر في وريقاتي وقصاصات بعض الجرائد والمجلات التي أحتفظ بها ، بكلمة الأستاذ المرحوم مولاي أحمد العلوي في التكريم الذي أقامه اتحاد كتاب المغرب بطنجة في أكتوبر 1986م ، للمرحوم الأستاذ عبد الله كنون ، كنت قد استخرجتها من الشريط مع مجموعة من العروض التي نشر بعضها ، ولا أعرف لماذا لم تنشر ، مع طرافتها ، ولعلي بنشرها أحيي ذكرى راحل عزيز هو العلامة الفقيه عبد الله كنون ، وذكرى راحل آخر لم يكن يبخل بالمشاركة أو الحضور في المجالس العلمية وهو الفقيد الوزير مولاي أحمد العلوي ، وسأقدمها كما ارتجلها صاحبها ) :
نجـاة المريـني
أنا سعيد بوجودي معكم هنا ، وإن كنت لست أديبا ولا شاعرا ،ولكني مدين لسيدي عبد الله كنون بشيئين :
الأول : كتاب النبوغ ،إذ لأول مرة في تاريخ المغرب وجدنا رجلا يكتب لنا في الأدب المغربي، لأننا لم نكن نعرفه ، لم نكن نعرف الشعراء ولا الأدباء ولا الزعماء ولا الأولياء ولا الأئمة ، ولأول مرة وجدناه ـ نحن أبناء هذا الجيل ـ من يمدنا بكتاب يضم شتات التراث المغربي ، ويعطي للمغرب شخصية أدبية وتاريخية ، وقد قرأت كتاب الأستاذ كنون مرارا ، وأقرأه كما أقرأ القصص البوليسية لأنه سهل القراءة ، وكما قال الأخ السحيمي :" كل أديب وكل شاعر دخل في مناخ تاريخي ،فكتابه يفهم بسهولة "، والمغاربة كلهم مدينون لك سيدي عبد الله كنون ، ولن ننسى فضلك علينا ، لأنك أعطيتنا شخصية متميزة أصبحنا معها نعرف بأننا شعب لا يأكل وينام فقط، وإنما شعب يفكر ، وينتج ، فيه الأدباء والشعراء ، والغريب أن الناس يكرمون الرجل بعد موته ، أما أنت فقد كرموك وأنت حي .
الثاني : وهو أمر غريب في المغرب ،وغريب في الشعوب ، ، ذلك أن وطنية عبد الله كنون مبنية على الإسلام وعلى الدين ،وعلى الإيمان ،و الأستاذ كنون من الناس الذين عاشوا في عهد الاستعمار ولم يتكيفوا أبدا مع الاستعمار، لقد بقي نقيا ولم ينزلق قط ،ومن الصعب على الإنسان أن يعيش تحت نير الاستعمار دون أن يتواطأ مع الاستعمار ، لأنه من المستحيل أن يتواطأ الشعب بكامله مع الاستعمار، هذا مستحيل ،ولكن عندما يكون زعماؤه ،وهذه القلة مزودة بالإيمان هي التي توقظ الشعب ، وسيدي عبد الله كنون من هذه المجموعة التي ظلت نقية أربعا وأربعين سنة من الاستعمار ، ولم يتواطأ ولم ينزلق .
لماذا جاء عبد الله كنون إلى طنجة ؟
عندما فرض الاستعمار والحماية على المغرب ، خرج أبوه من فاس ليهاجر إلى الشام ، لأن أهل فاس والعائلات الكبيرة لم يقبلوا الرضوخ للمستعمر المسيحي الأجنبـي ، لكن الحرب العالمية هي التي غيرت مساره ، واستقر هنا في طنجة ، فكثير من العائلات هاجرت في فترة الاستعمار كما حصل لبعض العائلات الجزائرية عندما دخل الاستعمار إلى الجزائر سنة 1830م ، فهاجرت إلى تطوان وفاس ، وكما تعرفون فالملك محمد بن عبد الرحمن طلب من عامله بتطوان استضافة العائلات المهاجرة من الجزائر .. لهذا ، فسيدي عبد الله كنون أعطانا درسا في الحياة ، ولكن يشهد الناس أن جماعة منهم هي أقلية ربَّتِ الشعب باستقامتها وسلوكها الطيب الشريف ، وهذه خصلة نادرة ،وهذا درس آخر أخذناه من سيدي عبد الله كنون ، وهو أنه لم يرهب الاستعمار ، فهو ولي في الحقيقة، ومن الأولياء العصريين ،إذا أمكننا قول ذلك ، والمغرب كله زاويته ، لأنه كان أستاذ المغرب كله .
تكلمتم ـ أيها السادة عن يوسف بن تاشفين ، وقريبا يوم الأربعاء ستمر الذكرى التاسعة بعد المائة أي تسعة قرون ،على وقعة الزلاقة ،" 23 أكتوبر 1086م ـ 23 أكتوبر 1986م " ، فيوسف بن تاشفين انتصر في معركة الزلاقة على ألفونسو السادس ، وأنا أعتقد أن يوسف هذا كان أكبر رجل وأكبر ملك وأكبر زعيم ،لأنه وحَّد المغرب سياسيا ودينيا ،ووحد المغرب العربي ووحد الأندلس ،ذلك لأن المغرب كان موزعا في آخر عهد الأدارسة ، كما أن ابن تاشفين قضى على تطلعات الأمويين والفاطميين في إخضاع المغرب لسلطتهما ، في الأندلس وتونس ، ذلك أن شمال المغرب كان تابعا حينئذ للأمويين وشرق المغرب كان تابعا للفاطميين ،وفي عهد ابن تاشفين امتدت حدود المغرب إلى ليبيا والحدود المصرية ، كما أنه رد هجوم المسيحيين على ملوك الطوائف بالأندلس، ولولاه لما استمرت العروبة ودولة الإسلام في الأندلس أربعة قرون أخرى بعد المعتمد بن عباد ،وعلينا ألا ننسى أن التراث الإسلامي الأندلسي لم يظهر إلا في عهد المرابطين والموحدين بالمغرب ، ففي عهدهما نشطت الحركة العلمية وظهر العلماء والأدباء أمثال ابن رشد وابن باجة وابن طفيل الخ.
حقيقة لا يمكن أن ننسى خيركم ــ سيدي عبد الله كنون ــ ، فقد كونـتنا أدبيا وعلميا ، وعرفتنا بأدبنا وتراثنا ، وكتابك ـــ النبوغ المغربي ــ له خصلة خاصة ،هو أنه شمل كل شيء بما في ذلك سيدي عبد السلام بن مشيش ، وفي كتابك ذكرت الأئمة والأولياء والإمام الشاذلي بأحزابه وأوراده ، وأنا أخذت النسخة الأولى الصادرة بتطوان ولا زلت أحتفظ بها ، وكلما ازداد عمره ـــ أي الكتاب ـــ ازداد كبره وحجمه في طبعاته المتأخرة .
ولا ننسى أنك ــ سيدي عبد الله كنون ــ ربــيــتـنا خلقيا ، وعلمتنا كيف نعيش في فترة الاستعمار دون أن يكون لنا مركّب الاستعمار ،وهذه هي الخصلة العظيمة التي يمنحها بعض الناس للآخرين ، وهي الوطنية ، إذ يمكن لأي كان أن يكون طبيبا أو أي شيء آخر ، ولكنه لا يكون وطنيا ، فأنت وطني مناضل ، وأنت من المربين ومن الزعماء الذين ربونا وربوا الشعب المغربي ، أطال الله عمركم ، والسلام .